“ليس من المفترض أن يكون تعبيرك عن عجزك المالي سببًا رادعًا لرفضك مشاركة أصدقاءك هديتهم الباهظة لفلان بمناسبة الزواج. ” هذه حقيقة لم أدركها حتى اختلطت بالشعب الذي يوصم بأنه رأس مالي في أحد أعلى جامعات ولاية واشنطن رسومًا دراسية.
مصطلح الشمولية أو inclusivity كانت قد ملت أذناي من تكراره على ألسنة مثقفيهم ومدعي الثقافة في ثلاث سنوات قضيتها بينهم، لم أكن أعِ مقدار ما يحمله من ثقل اجتماعي يشكله في شعب مختلف الأعراق والأصول، والذي قادهم إلى مرحلة تعايش عالية بشكل نسبي. في أحد الصفوف الدراسية سألنا أحد الدكاترة المعروف بخبثه: “ما معنى أن تكون من الدولة التي أنت منها؟”سؤال بسيط في ظاهره، جوهري في حقيقته. استمرت محاولاتنا البائسة بتحديد ما يحدد هويتنا كأفراد منتمين لمجتمع حصري ومنغلق كما يصف (الصين٫ تايوان والخليج): كجواز السفر، الشكل، الدماء…. ثم انتهينا إلى أنه من الصعب تحديد ما يميزنا في مجتمعنا لأن كامل المجتمع يتسم بأوصاف متقاربة، على العكس من الولايات المتحدة كما قال. فالمجتمع الأمريكي مبني على تكونه من مختلف الأعراق نتيجة احتلال أو هجرة أو تزاوج، فالاختلاف فيه هو الطبيعي ولا يوجد ما يحدد بالضبط ما يجعل شخصًا أمريكيا سوى حصوله على الوثيقة، فلا الديانة أو اللغة أو العرق يحدد استحقاقه من دونها. وعلى صحة نسبة كبيرة من كلامه، إلا أنه بداخل تشابهنا الكبير يكمن اختلاف على نواح دقيقة أكثر كالأنساب والمناطق الجغرافية والطبقات الاجتماعية والمناصب. والهدف ليس أن نصبح أمريكان؛ بالعكس فهويتنا امتياز لنا. ما نريد هو أن نتقبل الآخر المختلف عنا ونوجد أرضية مشتركة حتى تزدهر شخصياتنا وأعمالنا ومجتمعاتنا.
المبدأ الذي سهّل التعايش بين مختلف الفئات هو مبدأ الشمولية والتي يعرّفها قاموس أكسفورد بأنه القانون أو الممارسات التي تمنح الفرص والموارد بصورة متساوية للجميع، والذين قد يتم تهمشيهم بدونها مثل الأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية أو العقلية أو حتى الأشخاص المنتمين لأقليات. ويعرفها آخرون بأنه توفير البيئة الآمنة والمُرحبة لجميع الأشخاص على مختلف انتمائهم العرقي، ديانتهم، جنسياتهم، وجنسهم ووقدرتهم وصحتهم وقدراتهم المادية.
“لا افترض شيئًا” كانت عبارة قالتها مديرتي في مدينة سياتل حينما عرضت علي كأس نبيذ احتفالاً بنجاح عملنا حين أخبرتها أنني لا أشرب. ربما كانت جملة قصيرة ومحبطة؛ حيث أني لا أتمنى أن تقابل مسلمين يشربون الخمر بأريحية، لكنها كانت جملة علقت في ذهني لفترة طويلة. فدافعها الذي أنا متأكدة منه ليس هو إفسادي أو رغبة في جعلي أتمرد على الديانة؛ بل خوفًا منها أن تقصيني حين لا تشركني ما تشرب. لم يكن أحد في بيئة العمل تلك يفترض عني أي شيء، ولا حتى نسبة تديني، لا أحد يفترض أني أمتلك مواصلات، أو غداء، أو يطلب شيئًا خارج مهامي الوظيفية، بل كانوا مراعين جدا، حتى أني في مرة دخلت المكتب وأنا أسمع عزف عود عربي ليصدح بعدها صوت طلال مداح رحمه الله؛ رغبة منهم بالتعرف على ثقافتي وإشعاري أنني في مكان يمكنني أن أسميه بيتي!
لم أدرك حقيقة الافتراضات والإقصاءات التي يضعها علينا المجتمع حتى عدت من اغتراب وعيناي مشخصتان على كل موقف يحدث حولي أحاول تحليل أسبابه ودوافعه. أجريت مقابلة وظيفية مع مدير بمنصب عال اختارني من بد المتقدمين بسبب اسم عائلتي (قالها لي صريحة)، لم تجر الأمور على مايرام، ثم جاء منه اتصال بعد ست أشهر يعرض منصبًا شاغرًا ثم أخبرته بأن أحوالي تغيرت، ليسأل: “بشري، عساك تطلقتي؟” تلعثمت، ثم أخبرته “لا، على وشك ولادة طفلي”، ليرد علي: “الله المستعان منكم يالحريم وكل شوي تطلبون إجازة، لا لا خلاص توكلي على الله”. تم اقصاء أكثر من ٣٠ متقدم غيري بسبب أسماء عائلاتهم، وتم إقصائي لانه افترض أني لن أكون ملتزمة بعملي بسبب واجباتي الأخرى. تركتني هذه المحادثة في صدمة طويلة، طويلة جدا.
عملت بعدها لدى مكتب هندسي مرموق وخالطت العديد من الطبقات المختلفة، أبسط حوار مع العملاء لم يكن سهلاً أبدا. فليس من العدل أبدا أن أفترض أن العميل القادم لديه الكثير من المال ليصرفه لأحاول بيع أثمن المنتجات له، ولا أن أقيم مظهره لأريه فقط ما يمكنه تحمل تكلفته، ولا أن أقيم امكاناته العقلية ليفهم الخرائط الهندسية أو نصوص العقود، أو أن أقترح تصميما يعيق قدراتهم الجسدية.
في مجتمع الغربة حين تتشابه الأحوال، يكون الأمر سهلا حين تفصح عن التحديات التي تواجهك؛ فتكون متأكدا أن تصريحاتك لن يلحقها شعور بالشفقة أو الخزي أو أيا يكن، تكون بحثا عن مساندة. كنت قد انغمست في هذه الحياة المريحة إلى أن عدت إلى مجتمعي المليء بالافتراضات. يفترض أنك نجحت وتخرجت، أنك ثري ويمكنك شراء سيارة فاخرة، أن تسكن أحياء معينة، أن تكون صحتك النفسية مستقرة، أن يكون زواجك سعيدا، أنك قادر على الانجاب، أن ولادتك ستكون في مشفى خاص، وأن لديك خادمة أو اثنتين تقوم بالاعتناء ببيتك وصغارك.
لست هنا بصدد سرد جميع المواقف التي جعلت أهل ولاية واشنطن يشعروني أنا وملايين المغتربين والطلبة واللاجئين بترحاب كبير، بل سأحاول توطين هذا المفهوم حتى أحاول رد الجميل لهذا المجتمع؛ بعيدا عن عقدة الغرب، فالشعور الذي امتلكني تجاه هذه الممارسات مكّنني وقواني وحررني وأطلق قدرتي وأكد لي أن الأرض رحبة فسيحة وبها متسع يفيض علينا، وأتمنى أن أوصل هذا الشعور لكل شخص أقابله مهما اختلفت تكويناتنا. حاولت قدر المستطاع أن ألخص أكثر المفاهيم التي احتجت مراجعتها بشكل دوري شخصيًا حتى أستطيع خوض حوارات أكثر صحة وأكثر صدقًا وشفافية في أسلوب الحياة والتي قد تفيد أي أحد يحمل ذات الهم:
- لا تفترض، اسأل. حين يغيب عن فهمك أمر ما، اسأل عنه، فلا تقل “ليه متنان/نحفان مره؟” واسأل “كيف نفسيتك هالفترة؟”، “محتاج مساعدة؟”.
- حين يبوح أحد لك، أنصت جيدًا وراقب نبرتك وتعابير وجهك، أمتفهمة أم متعالية؟
- قاوم الصورة النمطية عن الشخص الذي أمامك والذي دائما ما تحاول قولبته. “منقبة” أو “مدلع” أو “طعس”، غالبا ما تبني الكثير من الحواجز التي تعيقك عن الوصول لجوهر الشخص الذي أمامك.
- استخدم لغة يفهمها من أمامك. ولا أقصد أن تتحدث بلغة أجنبية أمام غير متحدثٍ بها، بل تبسيط المفاهيم. فمصطلح “تنمر” قد لا يفهمه جيلنا أو جيل آباءنا ولا “الابتزاز العاطفي”، اشرح المفهوم قدر المستطاع لإيصال الفكرة.
- كن واعيًا بامتيازاتك. (وهذا موضوع أحب أن أذكره لاحقًا في موضوع مفصل) لكن بشكل بسيط: امتيازك بالنسَب الأصيل، الشهادة العلمية، المسكن الرغيد، طعام طازج، اتصال انترنت سريع، شريك محب ومتفهم، وقت فراغ كبير وحرية في التصرف، هذه امتيازات يجب أن لا تتوقع أن الجميع يحظى بها.
- لا تُقصِ أي رأي ومكّن الجميع. تأكد جيدا أن تستمع لرأي الشخص الأكثر قلقًا وتحفظًا من مشاركة رأيه وحاول فهم أسبابه إن كنت تخالفه.
- كن مبادرًا في تثقيف نفسك عن الموضوع الذي يهم من أمامك. فإن كان صديقك يعاني من متلازمة معينة فمن الضروري أن تطلع على مقالات علمية تخصها لتحتوي مشكلته، أو كان زميل من بلد آخر وتمر بلاده بأحوال استثنائية، سيكون من المُراعي السؤال عنها وترك المجال له بالحديث عما يهمه.
- أخيرا “كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ” حديث صحيح، من الطبيعي أن نخطئ في حديثنا مرات عديدة، صدق النية و المحاولة هي ما يهم.
لا أتمنى الأذى لأحد، لكني وإياك بالتأكيد ممرنا بمواقف أشعرتنا بأننا مستبعدين من مجتمع ظننا أننا ننتمي له بسبب اختياراتنا في الحياة، ولأن مرارة الموقف شديدة، فالنفس الطيبة لا تتمنى أن تكون سببا في عيش الآخرين لذات المرارة أبدا.
سأترك هنا بعض المراجع والمقالات التي يمكنك الاطلاع عليها لمزيد من المعلومات خصوصًا لممارسات شمولية في بيئة العمل والتعليم:
- https://fairforceberlin.medium.com/7-ways-to-be-more-inclusive-in-your-everyday-life-9af5ee018372
- https://indivisible.org/resource/how-be-inclusive-introduction
- https://cpdonline.co.uk/knowledge-base/safeguarding/inclusive-practice/
كما سأسعد بإثرائكم لممارسات وجدتموها مفيدة وتركت لديكم ذات الشعور بالتمكين.
دمتم بخير.
أروى
مقال راااائع ياأختي رااائع
وموجع
وتمنيت لو كان أطول
وأتوقع هذا من أجمل مكاسب الابتعاث لمثلك
الفكرة والصياغة شدتني جداً وأتمنى من كل قلبي أن تكون بذرة كتاب لمشاهداتك
بالتوفيق حبيبتي من كل قلبي
وأنتظر مقالك عن الامتيازات بشوق❤️❤️❤️
شكرا أختي العظيمة لقراءتك الممعنة والمفصلة والمراعية لأصغر التفاصيل
كل الحب والتقدير لك
أحببت هذا البوح أروى وانزعجت من تلك الحماقات الملتصقة بها دون أن نشعر.. نحتاج أن نتدرب أكثر شكرا لك
أشكر لك وقتك الثمين وردك الصادق.
الله يصلحنا ويهدينا
يا الله أروى!
كلامك لامسني مرة..
وجداً كان مريح اني اقرأ كلامك وكأنه يرتب الأفكار الي ياما خطرت في بالي وعلى قولتك خصوصاً بعد الغربه!
لا يوقف! فنانة🤍
لله دُرك، ننتظر المزيد من جمال قلمك …. ✍????
ماشاء الله .. حبييت الملاحظة والتأمل في هذه الأمور والوصول لأفكار تحسّن من العلاقات الاجتماعية وتثريها
شكرًا لك